الفهم… جوهرة العلم المفقودة
بقلم: هيام محمد الرفاعي
يُخطئ من يظن أن العلم وحده كفيلٌ بصناعة العقول الناضجة والنهضات الكبرى. فالعلم إذا لم يُقرن بالفهم، يصبح كالسفينة من غير دفة، تمخر عباب البحر من غير هدى، وقد تغرق في أول عاصفة.
العلم هو تراكم المعرفة والمعلومات، أما الفهم فهو القدرة على تحليلها وربطها واستثمارها في مواضعها الصحيحة. فبينما يُلقَّن العلم تلقينًا، يُكتسب الفهم بالتأمل والتجربة والتفكير العميق. ولهذا قيل: “ربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه”، أي أن الفهم قد يعلو بالإنسان فوق من علمه.
لقد ميّز الإسلام بين العلم والفهم، فجعل الفهم منزلة رفيعة من مراتب العقل، ودعا إليه في قوله تعالى:
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122]
والتفقّه هنا ليس مجرد العلم بالأحكام، بل إدراك مقاصدها وغاياتها. ومن هنا كان النبي ﷺ يدعو لابن عباس رضي الله عنه بقوله:
“اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل”
أي ارزقه الفهم الصحيح، لا مجرد المعرفة النظرية.
الفهم هو الذي يحوّل العلم من محفوظات جامدة إلى بصيرة واعية، ومن تكرارٍ إلى ابتكار. فكم من عالمٍ غزير العلم ضلّ الطريق لغياب الفهم، وكم من متعلّمٍ بسيطٍ فاق علماء عصره لأنه أحسن الفهم والإدراك.
إن فضل الفهم على العلم يشبه فضل الضوء على العين؛ فالعين ترى، لكن من غير ضوء لا تُبصر شيئًا. كذلك العلم بلا فهم، يظلم صاحبه، ويفقده القدرة على التمييز بين الحق والباطل.
وفي عصرٍ تتدفق فيه المعلومات من كل صوب، أصبح الفهم حاجةً ملحّة أكثر من أي وقت مضى. فالعقل المفكر لا يكتفي بالمعرفة، بل يبحث عن المعنى، ويستخلص من الكمّ الهائل من المعلومات ما ينفعه وينفع مجتمعه.
من هنا، علينا أن نُعيد ترتيب أولوياتنا التعليمية والتربوية: فليست الغاية أن نحشو العقول بالمعلومات، بل أن نعلّم أبناءنا كيف يفهمون، وكيف يحوّلون العلم إلى وعيٍ وسلوكٍ وعمل. لأن الأمم لا تبنى بالعلم وحده، بل بالفهم الذي يصوّب مساره ويهدي خطاه.
فالعلم يعطي الإنسان جناحين، والفهم هو الذي يعلّمه كيف يطير بهما. ولهذا، سيبقى الفهم تاج العلم، وميزان العقل، وروح النهضة الحقيقية.
“ليس المجد في أن تعرف كثيرًا، بل في أن تفهم عميقًا؛ فالفهم هو النور الذي يُنير طريق العلم ويمنحه الحياة.



Leave feedback about this