ثقافة وفن

سيكولوجية السعادة في السنة النبوية

سيكولوجية السعادة في السنة النبوية ..
رؤية لحياة مطمئنة إيجابية

د. انتخاب قلفه

مفهوم السعادة هي مطلب إنسانيّ وضرورة روحيّة، يبحث عنها الكبير والصغير، المسلم والكافر، ولا يختلف اثنان على ضرورة وجودها وأهميتها؛ فهي الحياة بمعانيها، وفي عصرنا الحاضر تنوع العارضون لها في مناهج عدة، ومنهم أصحاب المناهج المزعومة كدعاة الطاقة، وكمن يستدعي الجمال من نفسه، حتى وصل بعضهم إلى تقديس النفس ورفعها إلى منازل عالية، وإعطائها إمكانات خرافية خياليّة.

والباحثون عن السعادة كثر، والمتكلمون فيها أكثر، أينما تسر وفي أي مجال تقرأ، تجد كلمة السعادة ترافقك. تطور العصر، وتطورت الوسائل كلّها، وزادت الرفاهية وظن بعضهم أنّها السعادة، وحينما فقدوها زاد إلحاحهم في طلبها، وزاد البحث عنها؛ فلا يمرّ عليّ يوم حتى أرى، أو أسمع، أو أقرأ قولًا، أو عبارة عن السعادة.

ومع ضرورة السعادة وأهميتها بالنسبة للمرء، إلّا أنه قد اختُلِفَ في تعريفها اختلافا كبيرًا؛ فالفلاسفة فيما بينهم اختلفوا وتنوعوا في معانيها، وكذلك التربويون، ومثلهم الأدباء، وتنوع الشرعيون في تفسيرها، ومع ذلك فهم يتفقون في جوانب معينة،

ومصدر السعاده من السَّعْدُ الْيُمْنُ فِي الْأَمْرِ، وَالسَّعْدَانُ نَبَاتٌ مِنْ أَفْضَلِ الْمَرْعَى، يَقُولُونَ فِي أَمْثَالِهِمْ: «مَرْعَى وَلَا كَالسَّعْدَانِ»، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ قَالُوا لِسَاعِدِ الإنسان سَاعِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أُمُورِهِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ سَاعَدَهُ عَلَى أَمْرِهِ، إِذَا عَاوَنَهُ، كَأَنَّهُ ضَمَّ سَاعِدَهُ إلى سَاعِدِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُسَاعَدَةُ الْمُعَاوَنَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وعلى هذا؛ فإنّ أصل استخدام كلمة (سعد) في اللغة يدور على معنيين: الأول: الدلالة على الخير والسرور، والثاني: الدلالة على المعاونة

و أهم المعاني المتوفرة في كتب اللغة:

– اليُمْن: السَّعْد هو اليُمْن، وَهُوَ نَقِيضُ النَّحْس، والسُّعودة: خِلَافُ النُّحُوسَةِ، وَالسَّعَادَةِ: خِلَافُ الشَّقَاوَةِ.

– البركة: من معاني السعد البركة؛ فقولنا سَعَدَ اليَوْمُ: أي كانَ مُبارِكًا.

– المعاونة: الإِسْعاد: الْمَعُونَةُ، والمُساعَدة: المُعاونة، واستَسْعد الرجلُ بِرُؤْيَةِ فُلَانٍ أَي عَدَّهُ سَعْدًا، وسعْدَيك من قَوْلِهِ لَبَّيك وَسَعْدَيْكَ، أَي إِسعادًا لَكَ بَعْدَ إِسعادٍ، قال الأزهري: رُوي عَن النَّبِي أَنه كَانَ يَقُول فِي افْتِتَاح الصَّلَاة: «لبَّيك وسَعْديك، وَالْخَيْر فِي يَديك، والشرّ لَيْسَ إِلَيْك»، قال -الأزهري-: عَن ابْن السّكيت فِي قَوْله: «لبَّيك وَسَعْديك»، تَأْوِيله إلبابًا بعد إلباب، أَي لُزُوما لطاعتك بعد لُزُوم، وإسعادًا لأمرك بعد إسعاد، وقال الأزهري: وَأَخْبرنِي الْمُنْذِرِيّ عَن أَحْمد بن يحيى أَنه قَالَ: سَعْدَيك أَي مساعدة لَك، ثمَّ مساعدة وإسعادًا لأمرك بعد إسعاد، وأصل الإسعاد والمساعدة مُتَابعَة العَبْد أَمر ربّه.

ومنها الرضا والفرح والراحة، سعِد الشَّخصُ أحسّ بالرِّضا والفرح والارتياح.

ومنها السلامة، سَعِدَ الرجل من باب سلِم فهو سَعيدٌ. ومنها التوفيق، إِذا قيل: أسعد الله العبدَ وسَعَده؛ فَمَعْنَاه وفَّقه الله لما يرضيه عَنه، فيَسْعد بذلك سَعَادَة.

أهمية السعادة عند الفلاسفة

إنّ السعادة من المباحث المهمة في علم الفلسفة؛ فقلما تجد فيلسوفًا ولا مرجعًا فلسفيًّا، إلا وقد تطرق لها وعرّفها وخاض في طرقها؛ لما لها من أهمية كبرى للفرد والمجتمع، ولقد تعدّدت رؤى الفلاسفة في تحقيقها، لكنهم اتفقوا على ركائز معيّنة تؤدي إلى السعادة.

حقيقة السعادة عند الفلاسفة

للفلاسفة في حقيقة السعادة آراء مختلفة؛ فمنهم من يقول: إن السعادة هي الاستمتاع بالأهواء، ومنهم من يقول: إنها في اتباع الفضيلة، ومنهم من يقول: إنها في الاستمتاع بالملذات الحسية، ومنهم من يقول: إنها في العمل والجهد، ومنهم من يوحّد الخير الأعلى والسعادة، ويجعل اللذة شرطًا ضروريًّا للسعادة لا شرطا كافيًا.
أما علماء المسلمين فكانت لهم رؤية مميزة في مفهوم السعادة، ارتبطت بسعادة المرء في الدارة الآخرة، وفيما يلي بيان لآراء أشهر العلماء القدامى في مفهوم السعادة:

أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (185هـ/796م -260هـ/873م)، كانت رؤيته هي الدعوة إلى الرضا في كلّ الأحوال، من أجل السعادة والفرح والسرور؛ فمن أراد أن يكون سعيدًا فليكن قنوعًا راضيًا، يأخذ من مطالب البدن بالقدر الذي يحتاج إليه، وفي حدود ما يتوفر له، ولا يتألم لما فاته من متاع الدنيا؛ لأن أمور الدنيا أتفه من أن نحزن عليها أو نتألم لفقدها، ويلاحظ بروز جانب الرضا والقناعة في كلّ الأحوال في مفهوم السعادة عند الكندي، وهذا جانب مهم في سعادة المرء دعت إليه السّنّة النّبويّة.

أما أبو نصر محمد الفارابي (260 هـ/874-339 هـ/950م)، فقد جعل السعادة ذات طابع عقلي تأملي، لا طابع حسي مادي، وأن تحقيقها متوقف على تحقيق الفضائل كلها، وإذا كان الناس متفاوتين في درجات فضائلهم؛ فسعادة كلّ واحد فيهم بقدر درجة فضيلته، وقد قدم الفارابي تصوّرًا لنظرية السعادة غير مسبوق من فلاسفة الإسلام، جعل فيه الأخلاق مبنية على الفضيلة؛ فالسعيد هو الإنسان الفاضل، والفضائل مفاتيح السعادة، وبالابتعاد عن الأعمال القبيحة والشهوات تتحقق السعادة، وأن المعقولات تحدد ملامح الطريق إلى السعادة، فهي تدفعه بالتأكيد إلى التأمل والروية، وبذلك تتحقق السعادة عن طريق العقل والحكمة والتأمل، وهو هنا يدعو إلى التزام القيم، والاعتدال في العقل والحكمة والتأمل، وهذا في السّنّة النّبويّة يتمثل في صحة الاعتقاد، وتحقيق الإيمان والإسلام مع تطبيق القيم الإسلامية.
أما أبو علي ابن مسكويه (320هـ -421هـ) فيرى أنّ سعادة الإنسان في تحصيل الملذات المادية والمعنوية معًا، والسعادة مهما كان مستواها أو نوعها، فهي سعادة ناقصة، لا تخلو من الآلام والحسرات، أما سعادة الآخرة فهي أرقى السعادات وليس بعدها سعادة، ونجد أنه قد برزت عند ابن مسكويه ثقافته العربية الإسلامية البارزة في تأكيده على ضرور

Exit mobile version